فصل: الحديث الثَّانِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث السَّابِع:

عَن أبي بن عمَارَة رَضي اللهُ عَنهُ- وَكَانَ مِمَّن صَلَّى إِلَى الْقبْلَتَيْنِ- قلت: «يَا رَسُول الله، أَمسَح عَلَى الْخُف؟ قَالَ: نعم. قلت: يَوْمًا. قَالَ: نعم ويومين. قلت: وَثَلَاثَة؟ قَالَ: نعم وَمَا شِئْت».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْن مَاجَه فِي سُنَنهمَا.
أما أَبُو دَاوُد فَرَوَاهُ من حَدِيث يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن بن رزين، عَن مُحَمَّد بن يزِيد، عَن أَيُّوب بن قطن، عَن أبي بن عمَارَة- وَكَانَ قد صَلَّى مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْقبْلَتَيْنِ- أَنه قَالَ: «يَا رَسُول الله، أَمسَح عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ: ويومين. قَالَ: وَثَلَاثَة؟ قَالَ: نعم وَمَا شِئْت».
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَرَوَاهُ ابْن أبي مَرْيَم الْمصْرِيّ، عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، عَن مُحَمَّد بن يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن عبَادَة بن نسي، عَن أبي بن عمَارَة قَالَ فِيهِ: «حتَّى بلغ سبعا، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: نعم، وَمَا بدا لَك».
وَأما ابْن مَاجَه فَرَوَاهُ بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذكره أَبُو دَاوُد ثَانِيًا، وَاللَّفْظ أَيْضا، وَمن هَذَا الْوَجْه رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه، وَهُوَ حَدِيث ضَعِيف، بِشَهَادَة غير وَاحِد من الْحفاظ لَهُ بذلك.
قَالَ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه: هَذَا الحَدِيث اخْتلف فِي إِسْنَاده وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَبِمَعْنَاهُ قَالَ البُخَارِيّ، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: رِجَاله لايعرفون. نَقله عَنهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه وَعلله وَصَاحب الإِمام، وَنَقله عَنهُ أَيْضا أَبُو زرْعَة الدِّمَشْقِي، فَقَالَ: سَأَلت أَحْمد عَنهُ: أَتُحِبُّ الْعَمَل بِهِ؟ فَقَالَ: رِجَاله لَا يعْرفُونَ. وَقَالَ: لست أعْتَمد عَلَى إِسْنَاد خَبره. وَسَيَأْتِي مناظرته مَعَه فِي ذَلِك، وَقَالَ الْأَزْدِيّ: فِيهِ نظر متْنا وإسنادًا، وَهُوَ حَدِيث لَيْسَ بالقائم.
وَقَالَ ابْن حبَان فِي ثقاته: أبي بن عمَارَة الْأنْصَارِيّ لست أعْتَمد عَلَى إِسْنَاد خَبره. ثمَّ سَاقه من حَدِيث يَحْيَى، عَن عبد الله بن رزين، عَن مُحَمَّد بن يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن أَيُّوب بن قطن، عَن عبَادَة، عَن أبي: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى فِي بَيته قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله، أَمسَح عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ قَالَ: نعم. قلت: يَوْمًا؟ قَالَ: ويومين. قلت: وَثَلَاثَة؟ قَالَ: نعم، وَمَا بدا لَك».
قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي محلاه: فِيهِ يَحْيَى بن أَيُّوب، وَآخر كُوفِي، وأُخر مَجْهُولُونَ.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان أَيْضا: علته أَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة مَجْهُولُونَ، قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ. قَالَ: وَقَالَ الْموصِلِي أَيْضا: أَيُّوب بن قطن مَجْهُول، وَذكر حَدِيثه هَذَا وَالِاخْتِلَاف فِيهِ، وَقَالَ: كل لَا يَصح.
قَالَ ابْن الْقطَّان: وَمُحَمّد بن يزِيد هُوَ ابْن أبي زِيَاد صَاحب حَدِيث الصُّور، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم: مَجْهُول. وَعبد الرَّحْمَن بن رزين أَيْضا لَا يعرف لَهُ حَال فَهُوَ مَجْهُول. قَالَ: وَيَحْيَى بن أَيُّوب مُخْتَلف فِيهِ، وَهُوَ مِمَّن عيب عَلَى مُسلم إِخْرَاج حَدِيثه.
قلت: أما يَحْيَى بن أَيُّوب، فدعوى جهالته لَيست بجيدة فقد احْتج بِهِ مُسلم، وقرنه البُخَارِيّ، وَرَوَى عَنهُ جمَاعَة من الْأَئِمَّة: كالليث وَأَشْهَب وَغَيرهمَا، قَالَ ابْن معِين: ثِقَة. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وَقَول ابْن حزم إِنَّه كُوفِي، وهم فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ مصري قَاضِي مصر.
وَأما عبد الرَّحْمَن بن رزين: فروَى عَن جمَاعَة، وَعنهُ العطاف بن خَالِد، وَيَحْيَى بن أَيُّوب الْبَصْرِيّ، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ خَارج الصَّحِيح فِي الْأَدَب، وَأَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه، وَعَن ابْن حبَان أَنه قَالَ فِي ثقاته فِي حَقه: عداده فِي أهل الشَّام.
وَأما مُحَمَّد بن يزِيد فروَى عَنهُ جمَاعَة، وَقَالَ ابْن يُونُس: كُوفِي قدم مصر، وَكَانَ يُجَالس يزِيد بن أبي حبيب، رَوَى لَهُ د ت ق.
وَأما أَيُّوب بن قطن فَلَا أعلم لَهُ حَالا، وأعل الحَدِيث بِوَجْه آخر، وَهُوَ الِاخْتِلَاف فِي إِسْنَاده.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه: هَذَا الْإِسْنَاد لَا يثبت، وَقد اخْتلف فِيهِ عَلَى يَحْيَى بن أَيُّوب اخْتِلَافا كثيرا قد بَينته فِي مَوضِع آخر، قَالَ: وَعبد الرَّحْمَن بن يزِيد، وَأَيوب بن قطن مَجْهُولُونَ كلهم.
قَالَ ابْن الْقطَّان ثمَّ صَاحب الإِمام: وَهَذَا الِاخْتِلَاف الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ أَنه ورد عَن يَحْيَى بن أَيُّوب عَلَى وُجُوه: مِنْهَا: عَنهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن رزين، عَن مُحَمَّد بن يزِيد، عَن أَيُّوب بن قطن، عَن أبي بن عمَارَة. وَمِنْهَا: عَنهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن رزين، عَن مُحَمَّد بن يزِيد، عَن عبَادَة بن نسي، عَن أبي بن عمَارَة. وَمِنْهَا: عَن عبد الرَّحْمَن بن زرين، عَن مُحَمَّد بن يزِيد، عَن أَيُّوب بن قطن، عَن عبَادَة بن نسي، عَن أبي بن عمَارَة وَمِنْهَا: عَنهُ هَكَذَا إِلَى عبَادَة بن نُسي من غير ذكر أبي بن عمَارَة وَلَكِن يُرْسِلهُ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وَمِنْهَا: عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن، عَن مُحَمَّد، عَن وهب بن قطن، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ذكر ابْن الْقطَّان أَن ابْن السكن أَشَارَ إِلَيْهِ، وَلم يُوصل بِهِ إِسْنَادًا، وَإِنَّمَا قَالَ: وَيُقَال عَن يَحْيَى بن أَيُّوب، عَن عبد الرَّحْمَن، عَن مُحَمَّد عَن وهب بن قطن، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وَبَين بعضه ابْن الْجَوْزِيّ فِي كِتَابه الْإِعْلَام فِي نَاسخ الحَدِيث ومنسوخه: هَذَا حَدِيث مُضْطَرب، اخْتلف فِيهِ عَلَى يَحْيَى بن أَيُّوب، وَبَعْضهمْ يَقُول: عَن ابْن عمَارَة، وَبَعْضهمْ يَقُول: عَن أبي بن عمَارَة.
وَقَالَ أَبُو زرْعَة عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الدِّمَشْقِي النصري- بالنُّون- فِي تَارِيخه: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: حَدِيث أبي بن عمَارَة لَيْسَ بِمَعْرُوف الْإِسْنَاد. ثمَّ قَالَ أَبُو زرْعَة: فناظرت أَبَا عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل فِي حَدِيثه عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ- يَعْنِي حَدِيث أبي بن عمَارَة- فَلم يقنع بِهِ.
قلت لَهُ: فَحَدِيث عَطاء بن يسَار، عَن مَيْمُونَة حدثت بِهِ أَبَا عبد الله- أَعنِي فِي الْمسْح أَيْضا- قَالَ: ذَلِك من كتاب. قَالَ أَبُو زرْعَة: قلت لأبي عبد الله: فَإلَى أَي شَيْء ذهب أهل الْمَدِينَة فِي الْمسْح أَكثر من ثَلَاث وَيَوْم وَلَيْلَة؟ قَالَ: لَهُم فِيهِ أثر. وَقَالَ لي أَبُو عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل: حَدِيث خُزَيْمَة مِمَّا لَعَلَّه يدل عَلَى مَعْنَى حجَّة لَهُم قَوْله: «وَلَو استزدته لزادني».
وضعف هَذَا الحَدِيث من الْمُتَأَخِّرين الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي فَقَالَ: رَوَى مُحَمَّد بن مُعَاوِيَة التَّمِيمِي عَن البُخَارِيّ قَالَ: يُقَال: لأبي بن عمَارَة صُحْبَة، لَا يَصح حَدِيثه فِي الْمسْح، إِسْنَاده مَجْهُول، وَلَيْسَ يرْوَى عَنهُ غير هَذَا الحَدِيث.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي علله: هَذَا حَدِيث لَا يَصح. وَقَالَ فِي الْإِعْلَام: مُضْطَرب- كَمَا أسلفناه- وَضَعفه أَيْضا فِي تَحْقِيقه وَقَالَ ابْن الصّلاح: هَذَا حَدِيث ضَعِيف. وَأبي بن عمَارَة قيل: لم يثبت لَهُ ذكر فِي الصَّحَابَة، وَلذَلِك لم يذكرهُ البُخَارِيّ فِي تَارِيخه الْكَبِير، ونقل النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَغَيره الِاتِّفَاق عَلَى ضعفه واضطرابه، وَأَنه لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ.
وَخَالف هَؤُلَاءِ كلهم الْحَاكِم أَبُو عبد الله فَأخْرج الحَدِيث فِي مُسْتَدْركه بِسَنَد أبي دَاوُد الثَّانِي وَلَفظه الأول، لكنه قَالَ: «عبد الرَّحْمَن بن رزين» بدل «يزِيد» ثمَّ قَالَ: أبي بن عمَارَة صَحَابِيّ مَعْرُوف، وَهَذَا إِسْنَاد مصري لم ينْسب وَاحِد مِنْهُم إِلَى جرح.
قلت: لَكِن نسبوا إِلَى الْجَهَالَة كَمَا مرّ لَك، قَالَ: وَإِلَى هَذَا ذهب مَالك، وَلم يخرجَاهُ.
قلت: عُذْرهمَا لائح فِي عدم تَخْرِيجه، وَهُوَ الْجَهَالَة السالفة، وغلا ابْن بدر الْموصِلِي فَذكر هَذَا الحَدِيث فِي مَوْضُوعَاته وَهَذَا تبَاين عَظِيم بَينه وَبَين الْحَاكِم، ثمَّ رَأَيْت لَهُ فِي ذَلِك سلفا وَهُوَ الجورقاني فَإِنَّهُ ذكره فِي مَوْضُوعَاته وَقَالَ: إِنَّه حَدِيث مُنكر. ثمَّ أعله بِجَهَالَة من سلف، وَالصَّوَاب أَن لَا يذكر هَذَا فِي الموضوعات بل فِي الضُّعَفَاء.
وَقَالَ الْحَاكِم: إِن أبي بن عمَارَة صَحَابِيّ مَعْرُوف، قد أنكرهُ بعض الْعلمَاء.
قَالَ أَبُو عمر: واضطرب حَدِيثه، وَلم يذكرهُ البُخَارِيّ فِي تَارِيخه الْكَبِير لأَنهم يَقُولُونَ إِنَّه خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو أبي بن أم حرَام واسْمه عبد الله.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: من قَالَ أبي بن عمَارَة أَخطَأ، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو أبي واسْمه: عبد الله بن عَمْرو بن أم حرَام.
قلت: وَعمارَة أَيْضا اخْتلف فِي صحبته، وَالْأَشْهر كسر عينه، وَبِه جزم ابْن مَاكُولَا وَآخَرُونَ، وَقَالَ صَاحب الإِمام: إِنَّه الْمَعْرُوف فِيهِ. وَحَكَى أَبُو عمر، وَالْبَيْهَقِيّ، وَعبد الْغَنِيّ الْمَقْدِسِي الضَّم أَيْضا، وكل من حَكَاهُ قَالَ: الْكسر أشهر وَأكْثر، إِلَّا أَن أَبَا عمر قَالَ: الْأَكْثَرُونَ عَلَى الضَّم، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنه لَيْسَ فِي الْأَسْمَاء عمَارَة- بِالْكَسْرِ- غَيره.

.الحديث الثَّامِن:

عَن عَلّي بن أبي طَالب رَضي اللهُ عَنهُ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنه جعل الْمسْح ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن للْمُسَافِر وَيَوْما وَلَيْلَة للمقيم».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم مُنْفَردا بِهِ، من حَدِيث شُرَيْح بن هَانِئ، قَالَ: «أتيت عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها أسألها عَن الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَت: عَلَيْك بِابْن أبي طَالب فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافر مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جعل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن للْمُسَافِر وَيَوْما وَلَيْلَة للمقيم».
وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه بِأَلْفَاظ:
أَحدهَا: عَن شُرَيْح، عَن عَلّي، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ قَالَ: «للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن وللمقيم يَوْم وَلَيْلَة».
ثَانِيهَا بِهِ: «رخص لنا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَة أَيَّام للْمُسَافِر وَيَوْما وَلَيْلَة للحاضر».
ثَالِثهَا: عَن شُرَيْح قَالَ: «سَأَلت عليًّا عَن الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَ: رخص لنا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَر يَوْمًا وَلَيْلَة، وللمسافر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن».
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب.
وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرا وَاحِدًا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كَيْفيَّة الْمسْح: وَالْأولَى أَن يضع كَفه الْيُسْرَى تَحت الْعقب واليمنى عَلَى ظُهُور الْأَصَابِع، ويُمر الْيُسْرَى إِلَى أَطْرَاف الْأَصَابِع من أَسْفَل واليمنى إِلَى السَّاق، وتروى هَذِه الْكَيْفِيَّة عَن ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ وَلَا يحضرني من رَوَاهُ عَنهُ هَكَذَا، وَالَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ عَنهُ «أَنه كَانَ يمسح أَعلَى الْخُف وأسفله» كَمَا أسلفته فِي آخر الحَدِيث الرَّابِع.
خَاتِمَة رَأَيْت أَن أختم بهَا الْبَاب: اعْلَم أَن الرَّافِعِيّ لما صدر الْبَاب بِحَدِيث أبي بكرَة، وَصَفوَان قَالَ: وَالْأَحَادِيث فِي بَاب الْمسْح كَثِيرَة. وَهُوَ كَمَا قَالَ، فقد رَوَاهُ الجم الْغَفِير مِنْهُم.
قَالَ الإِمَام أَحْمد: لَيْسَ فِي قلبِي مِنْهُ شَيْء فَفِيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثا عَن أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَا رفعوا إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَمَا وقفُوا.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ عَنهُ: فِيهِ سَبْعَة وَثَلَاثُونَ صحابيًّا. وَرَوَى الْحسن بن مُحَمَّد عَنهُ كَالْأولِ، وَكَذَا قَالَ الْبَزَّار فِي مُسْنده.
وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: فِيهِ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ.
وَقَالَ أَبُو عمر: وَرَوَاهُ عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَحْو أَرْبَعِينَ مِنْهُم، وَأَنه استفاض وتواتر.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وروينا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ: حَدَّثَني سَبْعُونَ من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يمسح عَلَى الْخُفَّيْنِ» وَعبارَة الْمَاوَرْدِيّ: حَدَّثَني سَبْعُونَ بدريًّا. قَالَ: وَأَرَادَ أَنه سمع ذَلِك عَن بَعضهم؛ لِأَنَّهُ لم يدْرك سبعين بدريًّا.
وَذكر ذَلِك إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش قَالَ: ثَنَا سُفْيَان الثَّوْريّ، قَالَ: مسح رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَأَبُو بكر الصّديق، وَعمر بن الْخطاب، وَعُثْمَان بن عَفَّان، وَعلي بن أبي طَالب، وَسعد بن أبي وَقاص، وَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، وَأَبُو الدَّرْدَاء، وَزيد بن ثَابت، وَقيس بن سعد بن عبَادَة، وَابْن عَبَّاس، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان، وَعبد الله بن مَسْعُود، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأَبُو مَسْعُود الْأنْصَارِيّ، وَخُزَيْمَة بن ثَابت، والبراء بن عَازِب، وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ، وَأنس بن مَالك، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، والمغيرة بن شُعْبَة، وَصَفوَان بن عَسَّال، وفضالة بن عبيد الْأنْصَارِيّ، وَجَرِير بن عبد الله البَجلِيّ.
وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: وَمِمَّنْ روينَا عَنهُ الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنه أَمر بِالْمَسْحِ عَلَيْهِمَا فِي السّفر والحضر بالطرق الحسان فِي مصنفي بن أبي شيبَة وَعبد الرَّزَّاق. فَذكر جمَاعَة مِمَّن ذكرنَا عَن سُفْيَان، وَزَاد وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَابْن عمر، وسلمان، وبلال، وَعَمْرو بن أُميَّة، وَعبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء الزبيدِيّ وعمار، وَسَهل بن سعد، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَلم يرو عَن غَيرهم مِنْهُم خلاف إِلَّا الشَّيْء الَّذِي لَا يثبت عَن عَائِشَة، وَابْن عَبَّاس، وَأبي هُرَيْرَة. قلت: قَالَ أَحْمد فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: إِنَّه بَاطِل لَا يَصح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: فِي الْبَاب عَن جماعات، فَذكر جمَاعَة مِمَّن ذكرهم سُفْيَان وَأَبُو عمر، وَزَاد:
وَبُرَيْدَة، ويعلى بن مرّة، وَعبادَة بن الصَّامِت، وَأُسَامَة بن شريك وَأَبا أُمَامَة، وجابرًا يَعْنِي ابْن عبد الله، وَأُسَامَة بن زيد.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: روينَا جَوَاز الْمسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ عَن جماعات. فعددهم، وتداخل بَعضهم فِيمَا ذَكرْنَاهُ عَن سُفْيَان، وَالتِّرْمِذِيّ، وَأبي عمر، وَزَاد: وَعَمْرو بن الْعَاصِ، وَجَابِر بن سَمُرَة، وَأَبا زيد الْأنْصَارِيّ.
قلت: وَرَوَاهُ أَيْضا أبي بن عمَارَة كَمَا سلف قَرِيبا، وثوبان رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَعبد الله بن رَوَاحَة رَوَاهُ تَمام الرَّازِيّ فِي «فَوَائده» وَمُسلم أَبُو عَوْسَجَة رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي معرفَة الصَّحَابَة، وَعَائِشَة رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَأم سعد الْأَنْصَارِيَّة، رَوَاهُ ابْن مَنْدَه فِي معرفَة الصَّحَابَة، وَبُدَيْل بن وَرْقَاء، رَوَاهُ العسكري فِي الصَّحَابَة وأَبُو طَلْحَة رَوَاهُ الخرائطي فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق، وَمَالك بن سعد رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي الْمعرفَة أَيْضا، وَقَالَ: مَجْهُول. وَأَوْس بن أَوْس رَوَاهُ أَحْمد، وَطَلْحَة بن عبيد الله، وَالزبير بن الْعَوام، وَسَعِيد بن زيد، وَعبد الله بن مُغفل، وعامر بن ربيعَة، وعَوْف بن مَالك، وَعَمْرو بن حزم، وعصمة بن مَالك، وأَبُو ذَر الْغِفَارِيّ، وربيعَة بن كَعْب، وَرَافِع بن خديج، وخَالِد بن عرفطة، وأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ، وَأبي بن كَعْب، وَسمرَة بن جُنْدُب، وَالْعَبِيد، وشبيب بن غَالب الْكِنْدِيّ، وفروة بن مسيك، وَمَالك بن قهطم، وَمَالك بن ربيعَة، وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، ومعاذ بن جبل، وَبشر بن سعيد، وأَبُو بكرَة، وأَبُو ثَوْر، وأَبُو جُحَيْفَة، ويسار، ومَيْمُونَة، أَفَادَ ذَلِك ابْن مَنْدَه فِي مستخرجه، فَاجْتمع من كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وَمِمَّا زِدْته أَنه رَوَاهُ ثَمَانُون صحابيًّا، وَللَّه الْحَمد عَلَى ذَلِك وَعَلَى جَمِيع نعمه فَإِنَّهُ من الْمُهِمَّات.
وَيُسْتَفَاد مِمَّا ذكرنَا فَائِدَة جليلة: وَهِي أَن الْمسْح رَوَاهُ من جملَة الصَّحَابَة الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ، وَقد اجْتمع ذَلِك أَيْضا فِي رفع الْيَدَيْنِ كَمَا ستعلمه فِي بَابه، وَنقل النَّوَوِيّ فِي أَوَائِل شَرحه لمُسلم فِي كَلَامه عَلَى حَدِيث: «من كذب عَلّي مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار» أَن بَعضهم ذكر أَنه رُوِيَ عَن اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ صحابيًّا وَمِنْهُم الْعشْرَة، وَأَنه لَا يعرف حَدِيث اجْتمع عَلَى رِوَايَته إِلَّا هَذَا، وَلَا حَدِيث رَوَاهُ أَكثر من سِتِّينَ صحابيًّا إِلَّا هَذَا، وَقد علمت أَن حَدِيث الْمسْح رَوَاهُ أَكثر من هَذَا الْعدَد مَعَ الْعشْرَة، وستعلم مَا فِي حَدِيث رفع الْيَدَيْنِ فِي بَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
آخر الْجُزْء الْخَامِس عشر يتلوه: بَاب الْحيض، والجزء السَّادِس عشر.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم.
{رَبنَا آتنا من لَدُنْك رَحْمَة وهيئ لنا من أمرنَا رشدا}.

.باب الْحيض:

ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَادِيث وآثارًا:

.أما الْأَحَادِيث:

فستة وَعِشْرُونَ حَدِيثا:

.الحديث الأول:

رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «تمكث إحداكن شطر دهرها لَا تصلي».
هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ غَرِيب جدًّا، وَقد نَص غير وَاحِد من الْحفاظ عَلَى أَنه لَا يعرف لَهُ أصل.
قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه- فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ صَاحب الإِمَام-: ذكر بَعضهم عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه قَالَ: «تمكث نصف دهرها لَا تصلي» وَلَا يثبت هَذَا بِوَجْه من الْوُجُوه عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: الَّذِي يذكرهُ بعض فقهائنا فِي هَذِه الرِّوَايَة: «شطر عمرها- أَو شطر دهرها- لَا تصلي» فقد طلبته كثيرا فَلم أَجِدهُ فِي شَيْء من كتب أَصْحَاب الحَدِيث، وَلم أجد لَهُ إِسْنَادًا بِحَال.
وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه: هَذَا لفظ ذكره أَصْحَابنَا وَلَا أعرفهُ.
وَقَالَ الْمُنْذِرِيّ فِي الْقطعَة الَّتِي لَهُ عَلَى الْمُهَذّب: هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ لم يُوجد لَهُ إِسْنَاد بِحَال.
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق فِي مهذبه: لم أَجِدهُ بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا فِي كتب الْفُقَهَاء.
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرحه لَهُ: هَذَا حَدِيث بَاطِل لَا يعرف. وَقَالَ فِي خلاصته: إِنَّه بَاطِل لَا أصل لَهُ.
قلت: وَأما مَا ذكره ابْن تَيْمِية فِي شرح الْهِدَايَة لأبي الْخطاب عَن القَاضِي أبي يعْلى: ذكر عبد الرَّحْمَن بن أبي حَاتِم البستي فِي سنَنه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «تمكث إِحْدَاهُنَّ شطر دهرها لَا تصلي». وعبد الرَّحْمَن لَيْسَ لَهُ سنَن وسننه الَّتِي عزاهُ إِلَيْهَا لم نقف عَلَيْهَا بل وَلَا سمعنَا بهَا، فَالله أعلم.
وَلَفظ الحَدِيث فِي الصَّحِيح: «أَلَيْسَ إِذا حَاضَت لم تصلِّ وَلم تصم فَذَلِك من نُقْصَان دينهَا» رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أبي سعيد، وَرَوَاهُ مُسلم من حَدِيثه وَحَدِيث ابْن عمر وَلَفظه فِي حَدِيث ابْن عمر: «وتمكث اللَّيَالِي مَا تصلي وتفطر فِي شهر رَمَضَان فَهَذَا نُقْصَان الدَّين».
رَوَاهُ مُسلم أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِمثلِهِ، وَانْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ من طَرِيقه وَمن طَرِيق ابْن عمر.
وَوَقع فِي جَامع المسانيد لِلْحَافِظِ أبي الْفرج بن الْجَوْزِيّ أَن البُخَارِيّ انْفَرد بِإِخْرَاج حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَهُوَ من طغيان الْقَلَم، وَصَوَابه: أَن مُسلما انْفَرد بِهِ، وَمِمَّا يُؤَكد هَذَا أَنه سَاقه بِسَنَد مُسلم.

.الحديث الثَّانِي:

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تحيضي فِي علم الله سِتا أَو سبعا كَمَا تحيض النِّسَاء ويطهرن».
هَذَا الحَدِيث أصل عَظِيم فِي الْبَاب، وَعَلِيهِ مَدَاره، وَهُوَ بعض من حَدِيث طَوِيل، وَقد ذكر مِنْهُ قِطْعَة الرَّافِعِيّ بعد هَذَا، فنذكره بِتَمَامِهِ، فَنَقُول: رَوَى الْأَئِمَّة الشَّافِعِي وَأحمد فِي مسنديهما وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنهمْ وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي مُسْتَدْركه عَلَى الصَّحِيحَيْنِ وَالْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابيه الْمعرفَة والسّنَن من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عَقيل- بِفَتْح الْعين- عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة، عَن عَمه عمرَان بن طَلْحَة، عَن أمه حمْنَة بنت جحش رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «كنت أسْتَحَاض حَيْضَة كَبِيرَة شَدِيدَة، فَأتيت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أستفتيه وَأخْبرهُ، فَوَجَدته فِي بَيت أُخْتِي زَيْنَب بنت جحش، فَقلت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أسْتَحَاض حَيْضَة كَثِيرَة شَدِيدَة فَمَا تَأْمُرنِي فِيهَا؟ قد منعتني الصَّوْم وَالصَّلَاة. قَالَ: أَنعَت لَك الكرسف، فَإِنَّهُ يذهب الدَّم. قَالَت: هُوَ أَكثر من ذَلِك؟ قَالَ: فتلجمي. قَالَت: هُوَ أَكثر من ذَلِك؟ قَالَ: فاتخذي خرقًا. قَالَت: هُوَ أَكثر من ذَلِك إِنَّمَا أثج ثجًّا. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: سآمرك بأمرين، أَيهمَا صنعت أَجْزَأَ عَنْك، فَإِن قويت عَلَيْهِمَا فَأَنت أعلم، فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ ركضة من الشَّيْطَان فتحيضي سِتَّة أَيَّام أَو سَبْعَة أَيَّام فِي علم الله، ثمَّ اغْتَسِلِي، فَإِذا رَأَيْت أَنَّك قد طهرت واستنقأت فَصلي أَرْبعا وَعشْرين لَيْلَة أَو ثَلَاثًا وَعشْرين لَيْلَة وأيامها فصومي وَصلي فَإِن ذَلِك يجزئك، وَكَذَلِكَ فافعلي كَمَا تحيض النِّسَاء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن، وَإِن قويت عَلَى أَن تؤخري الظّهْر وتعجلِي الْعَصْر ثمَّ تغتسلين حتَّى تطهرين، وتصلين الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا، ثمَّ تؤخرين الْمغرب وتعجلين الْعشَاء، ثمَّ تغتسلين وتجمعين بَين الصَّلَاتَيْنِ فافعلي، ثمَّ تغتسلين مَعَ الصُّبْح وتصلين، وَكَذَلِكَ فافعلي وصومي إِن قويت عَلَى ذَلِك، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هُوَ أعجب الْأَمريْنِ إليّ» هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ.
وَلَفظ البَاقِينَ بِنَحْوِهِ، قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. قَالَ: وَرَوَاهُ عبيد الله بن عَمْرو الرقي وَابْن جريج وَشريك، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة، عَن عَمه عمرَان، عَن أمه حمْنَة إِلَّا أَن ابْن جريج يَقُول: عمر بن طَلْحَة. وَالصَّحِيح: عمرَان بن طَلْحَة. قَالَ: وسالت مُحَمَّدًا- يَعْنِي البُخَارِيّ- عَنهُ فَقَالَ: هُوَ حَدِيث حسن. قَالَ: وَهَكَذَا قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هُوَ حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه: قد اتّفق الشَّيْخَانِ- يَعْنِي البُخَارِيّ وَمُسلمًا- عَلَى إِخْرَاج حَدِيث الْمُسْتَحَاضَة من حَدِيث الزُّهْرِيّ وَهِشَام بن عُرْوَة عَن عَائِشَة «أَن فَاطِمَة بنت جحش سَأَلت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وَلَيْسَ فِيهِ هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي فِي حَدِيث حمْنَة بنت جحش.
قَالَ: وَرِوَايَة عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل وَهُوَ من أَشْرَاف قُرَيْش وَأَكْثَرهم رِوَايَة، غير أَن الشَّيْخَيْنِ لم يحْتَجَّا بِهِ، قَالَ: وَله شَوَاهِد فَذكرهَا.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله: اخْتلف عَلَى عبد الله بن عقيل فِيهِ، فَرَوَاهُ أَبُو أَيُّوب الأفريقي عبد الله بن عَلّي عَنهُ عَن جَابر وَوهم فِيهِ، وَخَالفهُ عبيد الله بن عمر، وَابْن جُرَيْج وعَمرو بن أبي ثَابت وزُهير بن مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم بن أبي يَحْيَى فَرَوَوْه عَن ابْن عَقيل، عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة، عَن عمرَان بن طَلْحَة، عَن أمه حمْنَة قَالَ وَهُوَ الصَّحِيح.
قلت: وَخَالف هَؤُلَاءِ جمَاعَة فضعفوه، قَالَ الْخطابِيّ: ترك بعض الْعلمَاء الِاحْتِجَاج بِهِ؛ لِأَن رَاوِيه ابْن عقيل لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن والْمعرفَة: تفرد بِهِ ابْن عقيل وَهُوَ مُخْتَلف فِي الِاحْتِجَاج بِهِ. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: رَوَاهُ عَمْرو بن ثَابت، عَن ابْن عقيل فَقَالَ: «قَالَت حمْنَة: وهُوَ أعجب الْأَمريْنِ» وَلم يَجعله قَول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: كَانَ عَمْرو بن ثَابت رَافِضِيًّا. وَذكره عَن يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي علله وَمِنْهَا نقلت: سَأَلت البُخَارِيّ عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: هُوَ حَدِيث حسن إِلَّا أَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة هُوَ قديم لَا أَدْرِي سمع مِنْهُ عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل أم لَا، وَكَانَ أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: هُوَ حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن مَنْدَه الْحَافِظ: هَذَا الحَدِيث لَا يَصح عِنْدهم بِوَجْه من الْوُجُوه؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة ابْن عقيل وَقد أَجمعُوا عَلَى ترك حَدِيثه. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَنهُ، فوهنه وَلم يقو إِسْنَاده. ورده أَبُو مُحَمَّد بن حزم بِوُجُوه:
أَحدهَا: الِانْقِطَاع بَين ابْن جريج وَابْن عقيل، وَزعم أَن ابْن جريج لم يسمعهُ من ابْن عقيل، بَينهمَا فِيهِ النُّعْمَان بن رَاشد، وَذكره بِسَنَدِهِ وَضعف النُّعْمَان هَذَا.
ثَانِيهَا: أَنه رَوَاهُ عَن ابْن عقيل: شريك وَزُهَيْر بن مُحَمَّد، وَكِلَاهُمَا ضَعِيف.
ثَالِثهَا: أَن عمر بن طَلْحَة غير مَخْلُوق وَلَا يعرف لطلْحَة ابْن اسْمه عمر، قَالَ: وَرُوِيَ من طَرِيق ابْن أبي أُسَامَة، وَقد ترك حَدِيثه فَسقط الْخَبَر جملَة، وَعَن أبي دَاوُد عَن أَحْمد أَنه قَالَ: فِي هَذَا الْبَاب حديثان وثالث فِي النَّفس مِنْهُ شَيْء. وَفسّر أَبُو دَاوُد الثَّالِث بِأَنَّهُ حَدِيث حمْنَة هَذَا.
قلت: وَلَك أَن تجيب عَمَّا طعنوا فِيهِ، وَأما ترك بعض الْعلمَاء الِاحْتِجَاج بِهِ فمعارض بتصحيح غَيره لَهُ.
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب: هَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل لَا يقبل؛ فَإِن أَئِمَّة الحَدِيث صححوه، وَهَذَا الرَّاوِي وَإِن كَانَ مُخْتَلفا فِي توثيقه وجرحه فقد صحّح الْحفاظ حَدِيثه هَذَا، وهم أهل هَذَا الْفَنّ، وَقد علم من قاعدتهم فِي حد الحَدِيث الصَّحِيح وَالْحسن أَنه إِذا كَانَ فِي الرَّاوِي بعض الضعْف يجْبر حَدِيثه بشواهد لَهُ أَو متابعات وَهَذَا من ذَلِك.
وَأما مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ من تفرد ابْن عقيل بِهِ فَجَوَابه أَنه إِذا كَانَ الرَّاجِح توثيقه فَلَا يضر تفرده بِهِ؛ لِأَن تفرد الثِّقَة بِالْحَدِيثِ لَا يضر، وَقد عرفت حَاله فِي بَاب الْوضُوء، وَقد ذكرنَا آنِفا تَحْسِين أَحْمد وَالْبُخَارِيّ حَدِيثه هَذَا، وَزَاد أَحْمد تَصْحِيحه.
وَأما مَا ذكره أَبُو دَاوُد من أَن عَمْرو بن ثَابت رَوَاهُ عَن ابْن عقيل فَقَالَ: «قَالَت حمْنَة: هَذَا أعجب الْأَمريْنِ إليَّ» فَجعله من قَوْلهَا وَلم يَجعله قَول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فَلَا يقْدَح فِيمَا تقدم؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنَّهَا قَالَت ذَلِك بعد قَول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلَى أَن هَذَا الحَدِيث إِنَّمَا صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَأحمد وَغَيرهمَا من جِهَة زُهَيْر عَن ابْن عقيل، لَا من جِهَة عَمْرو بن ثَابت.
وَأما قَول يَحْيَى بن معِين أَن عَمْرو بن ثَابت كَانَ رَافِضِيًّا، فمسلّم، لَكِن لم ينْقل أحد أَنه كَانَ دَاعِيَة، نعم هُوَ مَتْرُوك.
وَأما مَا ذكره التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ من توقفه فِي سَماع ابْن عقيل من إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَلْحَة لقدم إِبْرَاهِيم؛ فَجَوَابه أَن إِبْرَاهِيم هَذَا مَاتَ سنة عشر وَمِائَة فِي قَول أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام وَعلي بن الْمَدِينِيّ، وَخَلِيفَة بن خياط، وَهُوَ تَابِعِيّ سمع عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَأَبا أسيد السَّاعِدِيّ، وأَبَا هُرَيْرَة، وَعَائِشَة.
وَابْن عقيل سمع: عبد الله بن عمر، وَجَابِر بن عبد الله، وأنسا وَالربيع بنت معوذ فَلَا يُنكر إِذا سَمَاعه من إِبْرَاهِيم لقدمه، وَابْن أبي طَلْحَة من هَؤُلَاءِ فِي الْقدَم، وهم نظراء، وَلَو توقف البُخَارِيّ عَن ذَلِك غير مُعَلل بعلة أَو بعلة أُخْرَى لما توجه الْإِنْكَار عَلَيْهِ عَلَى أَنِّي رَأَيْت بعض مَشَايِخنَا يَقُول: إِن فِي صِحَة هَذَا عَن البُخَارِيّ نظرا، لَكِن قد نَقله عَنهُ مثل هَذَا الإِمَام. وَجَوَابه مَا سلف.
وَأما قَول ابْن مَنْدَه فِي ابْن عقيل، فقولة عَجِيبَة مِنْهُ، وَقد أنكرها عَلَيْهِ صَاحب الإِمام وَقَالَ: لَيْسَ الْأَمر كَمَا ذكره وَإِن كَانَ بحرًا من بحور هَذِه الصِّنَاعَة، فقد ذكر التِّرْمِذِيّ أَن الْحميدِي وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق كَانُوا يحتجون بِحَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل وَقَالَ البُخَارِيّ فِيهِ: أَنه مقارب الحَدِيث.
قلت: وَحسن حَدِيثه هَذَا وَصَححهُ كَمَا سلف.
وَأما مَا ذكره ابْن أبي حَاتِم فَلم يبين سَبَب وهنه حتَّى يبْحَث مَعَه عَنهُ، وَلَعَلَّه أَرَادَ بعض مَا مَضَى أَو مَا يَأْتِي، وَقد أجبنا عَنهُ.
وَأما رد ابْن حزم بالانقطاع بَين ابْن جريج وَابْن عقيل وَضعف الْوَاسِطَة بَينهمَا، فَجَوَابه أَن التِّرْمِذِيّ وَأَبا دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم رَوَوْهُ من غير طَرِيق ابْن جرير، فليتصل طَرِيق ابْن جريج أَو لينقطع، ولتكن الْوَاسِطَة بَينه وَبَين ابْن عقيل ضَعِيفا إِن شَاءَ أَو قويًّا، وَعَلَى تَقْدِير الْوَاسِطَة وَهُوَ النُّعْمَان بن رَاشد، فقد أخرج لَهُ مُسلم وَاسْتشْهدَ بِهِ البُخَارِيّ وَقَالَ: فِي حَدِيثه وهمٌ كثير وَهُوَ صَدُوق فِي الأَصْل. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم: أدخلهُ البُخَارِيّ فِي الضُّعَفَاء، فَسمِعت أبي يَقُول: يحول اسْمه مِنْهُ.
وَأما تَضْعِيفه لِشَرِيك فَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، لِأَنَّهُ مخرج لَهُ فِي الصَّحِيح، وَقد انْفَرد بِهَذَا الطَّرِيق ابْن مَاجَه فأخرجها فِي سنَنه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، عَن يزِيد بن هَارُون، عَن شريك، عَن ابْن عقيل بِهِ كَمَا تقدم.
وَأما تَضْعِيفه زهيرًا وَهُوَ الَّذِي سَاقه من قدمْنَاهُ من طَرِيقه خلا ابْن مَاجَه، فقد أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه محتجًا بِهِ، وَمُسلم فِي الشواهد، وَقَالَ أَحْمد: هُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَحَله الصدْق وَفِي حفظه شَيْء، وَحَدِيثه بِالشَّام أنكر من حَدِيثه بالعراق. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي تَارِيخه الصَّغِير: مَا رَوَى عَنهُ أهل الشَّام فَإِنَّهُ مَنَاكِير، وَمَا رَوَى عَنهُ أهل الْبَصْرَة فَإِنَّهُ صَحِيح الحَدِيث. قَالَ الإِمَام أَحْمد: كَأَن الَّذِي رَوَى عَنهُ أهل الشَّام زهيرًا آخر؛ فَقلب اسْمه. وَقَالَ الدَّارمِيّ: ثِقَة صَدُوق وَله أغاليط. وَقَالَ يَحْيَى: ثِقَة. وَقَالَ ابْن عدي: لَعَلَّ أهل الشَّام حَيْثُ رووا عَنهُ أخطأوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إِذا حدّث عَنهُ أهل الْعرَاق فروايتهم عَنهُ شَبيهَة بالمستقيمة، وَأَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
قلت: وَحَدِيثه هَذَا من رِوَايَة أبي عَامر الْعَقدي عَنهُ، وَهُوَ بَصرِي، فَهَذَا من حَدِيث أهل الْعرَاق وَلَيْسَ من حَدِيث أهل الشَّام.
وَأما إِنْكَاره عمر بن طَلْحَة فقد أسلفنا عَن التِّرْمِذِيّ أَنه لَا يَقُوله فِي هَذَا الْإِسْنَاد إِلَّا ابْن جريج، وَغَيره يَقُول: عمرَان. وَهُوَ مَا سَاقه التِّرْمِذِيّ وَغَيره مِمَّن أسلفنا.
وَأما تَضْعِيفه لِلْحَارِثِ بن أبي أُسَامَة الْحَافِظ صَاحب الْمسند فَلَيْسَ بجيد مِنْهُ، وَقد تكلم فِيهِ الْأَزْدِيّ بِلَا حجَّة، والأزدي مُتَكَلم فِيهِ، وَلينه بعض البغاددة لكَونه يَأْخُذ عَلَى الرِّوَايَة أَي أجرا، قَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ: هُوَ ثِقَة. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: قد اخْتلف فِيهِ وَهُوَ عِنْدِي صَدُوق. وَقَالَ البرقاني: أَمرنِي الدَّارَقُطْنِيّ أَن أخرج عَنهُ فِي الصَّحِيح. وَخرج عَنهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه.
وَأما تَفْسِير أبي دَاوُد الحَدِيث الثَّالِث- الَّذِي قَالَ فِيهِ أَحْمد مَا أسلفناه عَنهُ- بِأَنَّهُ حَدِيث حمْنَة، فَهُوَ معَارض بِنَقْل التِّرْمِذِيّ عَنهُ أَنه صَححهُ.
فَائِدَة: فِي ضبط أَلْفَاظه ومعانيه، مَعْنَى «أَنعَت لَك الكرسف»: أصف لَك قيل: النَّعْت وصف الشَّيْء بِمَا فِيهِ من حسن، وَلَا يُقَال فِي الْقبْح إِلَّا أَن يتَكَلَّف متكلف فَيَقُول: نعت سوء.
والكرسف- بِضَم الْكَاف وَالسِّين- الْقطن، وَقد جعل وَصفا فِي حَدِيث «كفن فِي ثَلَاثَة أَثوَاب يَمَانِية كُرْسُف» وهُوَ من بَاب إبل مائَة وجبة ذِرَاع، مِمَّا جعل وَصفا وَإِن لم يكن مشتقًّا.
وَقَوله: «تلجمي» اللجام مَا تشده الْحَائِض. قَالَه الْجَوْهَرِي، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: قَالَ الْخَلِيل: اللجام مَعْرُوف، فَإِن أخذناه من هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ افعلي فعلا يمْنَع سيلان الدَّم واسترساله كَمَا يمْنَع اللجام استرسال الدَّابَّة. ثمَّ نقل عَن بَعضهم أَن اللجمة فِيمَا يُقَال فوهة النَّهر قَالَ: فَإِن صَحَّ هَذَا فَيكون مَعْنَاهُ شدّ اللجمة وَهِي الفوهة الَّتِي ينهر مِنْهَا الدَّم. قَالَ وَهَذَا بديع غَرِيب. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب: وَورد فِي هَذَا الحَدِيث «تلجمي واستثفري»- قلت: لم أَقف عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ الثَّانِي- ثمَّ ذكر عَن الْهَرَوِيّ احْتِمَالَيْنِ فِي الاستثفار، ثمَّ قَالَ: وَالْمرَاد بالتلجم والاستثفار شَيْء وَاحِد. قَالَ: وَسَماهُ الشَّافِعِي التَّعْصِيب أَيْضا.
والثج: السيلان، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ثجاجًا} أَي سيّالاً، وَمِنْه الحَدِيث «أفضل الْحَج العج والثج».
والركض: أَصله الضَّرْب بِالرجلِ والإصابة بهَا، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بقوله: «ركضة الشَّيْطَان» الْإِضْرَار بِالْمَرْأَةِ والأذى لَهَا بِمَعْنى أَن الشَّيْطَان وجد بذلك سَبِيلا إِلَى التلبيس عَلَيْهَا فِي أَمر دينهَا وطهرها وصلاتها حتَّى أَنْسَاهَا بذلك عَادَتهَا، فَصَارَ فِي التَّقْدِير كَأَنَّهُ ركضة يَا لَهُ من ركضاته، وَإِضَافَة ذَلِك إِلَى الشَّيْطَان كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فأنساه الشَّيْطَان ذكر ربه} وَقيل: هُوَ حَقِيقَة وَأَن الشَّيْطَان ضربهَا حتَّى انْقَطع عرقها.
وَقَوْلها: «تحيضي فِي علم الله» أَي: الزمي الْحيض وَأَحْكَامه فِيمَا أعلمك الله من عَادَة النِّسَاء، كَذَا قَالَ أَصْحَابنَا فِي كتبهمْ، وَالْعلم هُنَا بِمَعْنى الْمَعْلُوم.
وَقَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ: فِيمَا علم الله من أَمرك من سِتَّة أَو سَبْعَة.
وَقَوله: «كَمَا تحيض النِّسَاء» المُرَاد غَالب النِّسَاء، لِاسْتِحَالَة إِرَادَة النِّسَاء كُلهنَّ لاختلافهم.
وَقَوله: «مِيقَات حيضهن» هُوَ بِنصب التَّاء عَلَى الظّرْف أَي فِي وَقت حيضهن.
فَائِدَة ثَانِيَة: حمْنَة هَذِه هِيَ بنت جحش أُخْت زَيْنَب بنت جحش أم الْمُؤمنِينَ كَمَا تقدم فِي الحَدِيث، كَانَت تَحت مُصعب بن عُمَيْر، فاستشهد عَنْهَا يَوْم أحد فَتَزَوجهَا طَلْحَة بن عبيد الله فَولدت لَهُ مُحَمَّدًا وَعمْرَان، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ فِيمَا حَكَاهُ الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فِي أَطْرَافه: بَعضهم يغلط فيروي أَن الْمُسْتَحَاضَة حمْنَة بنت جحش، ويظن أَن كنيتها أم حَبِيبَة وَهُوَ يَعْنِي الْمُسْتَحَاضَة حَبِيبَة أم حبيب. وَكَذَا نقل الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْحَرْبِيّ أَن الصَّوَاب أم حبيب بِغَيْر هَاء وَأَن اسْمهَا حَبِيبَة، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَهَذَا صَحِيح، وَكَانَ من أعلم النَّاس بِهَذَا الْبَاب.
وَذكر الزبير بن بكار وشباب الْعُصْفُرِي أَنَّهَا حمْنَة، وكناها ابْن الْكَلْبِيّ وَابْن حزم فِي «جمهرتهما» وَابْن عَسَاكِر والمزي: أم حَبِيبَة، وَذكر الْمزي أَن أَبَا دَاوُد أخرجه من أحد الْوَجْهَيْنِ عَن حَبِيبَة وَهِي حمْنَة، وَأَن ابْن مَاجَه أخرجه من وَجْهَيْن أَحدهمَا عَن حمْنَة، وَالْأُخْرَى عَن أم حَبِيبَة.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: حمْنَة بنت جحش، قَالَ عَلّي بن الْمَدِينِيّ: هِيَ أم حَبِيبَة. وَخَالفهُ يَحْيَى بن معِين فَزعم أَن الْمُسْتَحَاضَة أم حَبِيبَة بنت جحش تَحت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لَيست بحمنة.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحَدِيث ابْن عقيل يدل عَلَى أَنَّهَا غَيرهَا كَمَا قَالَ يَحْيَى، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: أم حَبِيبَة بنت جحش كَانَت تَحت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَكَانَت تستحاض، وَقيل: إِن الْمُسْتَحَاضَة كَانَت حمْنَة أُخْتهَا، وَالصَّحِيح عِنْد أهل الحَدِيث أَنَّهُمَا كِلَاهُمَا مستحاضتان، قَالَ: وَبَنَات جحش الثَّلَاث استحضن، زَيْنَب وَأم حَبِيبَة وَحمْنَة.
فَائِدَة ثَالِثَة: اخْتلف الْعلمَاء فِي حمْنَة هَذِه؛ هَل كَانَت مُسْتَحَاضَة مُبتَدأَة أَو مُعْتَادَة؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاخْتَارَ الْخطابِيّ وجماعات من أَصْحَابنَا أَنَّهَا كَانَت مُبتَدأَة فَردَّتْ إِلَى غَالب عَادَة النِّسَاء، قَالَ الْخطابِيّ: وَيدل لَهُ قَوْله: «كَمَا تحيض النِّسَاء ويطهرن»، وَاخْتَارَ الشَّافِعِي فِي الْأُم أَنَّهَا كَانَت مُعْتَادَة وأوضح دَلِيله، وَقَالَ: هَذَا أشبه مَعَانِيه وَرجحه الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة وَقَالَ فِي خلافياته: إِنَّه الظَّاهِر.
وَلم يرجح فِي سنَنه شَيْئا.
قَالَ صَاحب التَّتِمَّة: من قَالَ: كَانَت مُعْتَادَة، ذكرُوا فِي ردهَا إِلَى السِّتَّة أَو السَّبْعَة ثَلَاث تأويلات، أَحدهَا: مَعْنَاهُ سِتَّة إِن كَانَت عادتك سِتا، أَو سبعا إِن كَانَت عادتك سبعا.
ثَانِيهَا: لَعَلَّهَا شكت؛ هَل عَادَتهَا سِتَّة أَو سَبْعَة، فَقَالَ: تحيضي سِتَّة إِن لم تذكري عادتك أَو سبعا إِن ذكرت أَنَّهَا عادتك.
ثَالِثهَا: لَعَلَّ عَادَتهَا كَانَت تخْتَلف، فَفِي بعض الشُّهُور سِتَّة وَفِي بَعْضهَا سَبْعَة، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام سِتَّة فِي شهر السِّتَّة وَسَبْعَة فِي شهر السَّبْعَة، فَتكون لَفْظَة «أَو» للتقسيم.